فــاصـل أوّل
كانت سوق الصّاغة حافلة هذا الصباح كعادتها في أيام المواسم والأعياد فقد كثرت فيها الجلبة وارتفع صياح الدلالين واختلط لغط التجار والفضوليين وغيرهم ممن رغبوا في البيع أو الشراء، وكان حرّ الصيف قد زاد في شحن أجواء السوق بحرارة أخرى تبدو احتفالية أكثر ممّا هي تجارية، حتى أن سي عباس أحد أه إلى السوق وقد فترت عزيمته، لكن عقله أخذ يعتصر ليولّد فكرة توصله إلى تلك التي سكنت قلبه الآن. *** *** عاد إلى مكانه في الدُّكانة وهو خائر القوى فاقد العزيمة وقد عافت نفسه حتى الكلام مع معارفه، فطلب من الصّبي أن يعد له قهوة دون سكر هذه المرة. ثاب إلى رشده لما استراح قليلا وترشف قهوته فلعن الشيطان الذي لعب بعقله وحرّك سواكنه بتلك الصفة التي أفقدته وقاره واتزانه وتركته يجري وراء صبية غريبة ربما تكون في حرمة رجل أو تعاني وضعا ينأى بها عن الطيش والغواية. حاول أن ينسى ما جرى معتبرا أن ما حصل ليس إلا من قبيل نزوة سرعان ما تزول بفعل شواغل اليوم، لكن صورة الفتاة ألحّت على عقله بكيفية حميمة فتسرّبت قسمات الوجه الحلو إلى فؤاده حب مكانة في السوق ومن عائلة محترمة ومن... قاطعه عباس بحركة متشنجة من يده ثم استوى واقفا كأنه يروم إنهاء لقاء لن يجني من ورائه شيئا. قام إلياهو أيضا واتجه نحو محلّه وقبل أن يصل إلى الباب استدار نحو عباس وقال له بلهجة فيها بعض العتاب: - سي عه، حسب ما أعلم، لا صاحبته الأولى ولا امرأة أخرى.. الله لطيف.. "نواصي وعتب" يا بني.. هاه.. يبدو أنك راغب في حورية لأحد أبنائك يا سي... - .. غير مهمّ اسمي يا خالة.. المهم بالنسبة لي معرفة حكاية أحمد الباش أو الأشهب.
test
فاصـل ثان
كان أحمد الباش من ألمع ضباط باي الأمحال، له حظوة عند سيده، وقد نال من ورائها المال والعقار فصار في وقت وجيز من الوجهاء ومن أصحاب الأملاك والنفوذ، بهيّ الطلعة متكامل الجسم متناسق القسمات أزرق العينين غليظ الشاربيالضابط أن يستمع دون أن يتكلم كثيرا حتى يسكر صاحبه ويتحدث تلقائيا، فكان له ما أراد، فبعد ساعة، طفق الثعلب يحكي إلى أن وصل إلى بيت القصيد قائلا:.. هذا الرجل لا يستحق الاعتبار.. لكنه ثعلب يحاول مراوغة أسد.. والأسد لا يرحم إذا ما أُخِذ منه شيء.. هل أحضرت القلادة يا جوزيف.. - نعم.. نعم.. سلخلخال؟ صفيه لي وأنا قادر على وضعه بين يديك، إني أعرف باش صائغي.. لا يضاهالمُزيّن فالتقت عيناه بعيني زينة، ودون أن يشعرا، غمرتهما موجة عارمة من شعور مبهم جعلتهما ينطلقان في ضحكة من كل القلب. - آه يا زينة.. وأخيرا.. أخيرا.. أنت الآن لي.. لا عسكر ولا باي.. ولا طريق طويلة.. ولا عيون تتجسس علينا.. نحن الآن في خيمة العرس.. لكن.. قبل أن أدخل عليك.. عاهدت نفسي أن ألبّي طلبك العزيز حالما ننتقل إلى تونس.. - ما هو الطلب يا سي أحمد.. لقد نسيت؟!! - ألم تطلبي مني وفي سياق الحديث أن أهديك خلخالا لم تلبسه امرأة من قبلك ؟! خلخال لا يقدر عليه سوى الباي؟! - وهل تقدر أنت يا سي أحمد على هذا الخلخال؟!! - ولِمَ لا، فكل شيء بمشيئة الله وبالعزم الصادق، أنظري أين أنت الآن بكل هذه الزينة، وفي هذاالقبيلة ولا أبناؤه ولا أحد لمواساته وإخباره بحقيقة ما جرى وما يجري.. حتى أنه ظنّ أن قبيلة أخرى أغارت على قبيلة صاحبه وطردتهم من المكان وبقي هو فيه ينتظر مصيره المجهول. حتى كان يوم الغد…
فاصــل ثالث
تجمّع ثلة من ضباط المحلّة ومن عسكرها حول جواد وصل بمفرده إلى المُعسكر وهو يحمل كومة بشرية لا تسترها سوى الأسمال وقد اغْبرَّ وجهها وتلطخ بدم جفّ عليها فأصبحت غير معروفة من أول وهلة. تقدم الباش حانبة بعدما أبعد الفضوليين وأمر بإنزال الرجل من ظهر الحصان ثم انكبّ عليه يتفحّصه ولما تعرّف عليه صاح آمرا: - خذوه إلى خيمة سيدنا وانظروا هل هناك رجال وراءه. أسرع أربعة إلى الرجل وحملوه إلى خيمة الباي وطرحوه أمامه: - سيدنا.. هذا سي أحمد الأشهب.. يظهر أنه كان محبوسا وعذّب كثيرا وقد حمله حصانه إلى هنا.. - أحمد الأشهب!؟ عجبا.! أمازال حيا؟! ارفعوه حالا إلى الطبيب واعتنوا به، وحالما يتماثل للشفاء أعيدوه إليّ لكي أعرف ماذا وقع له ولرجاله.. - سيدنا.. لقد وجدنا هذا المكتوب في حافظة من القماش وقد رُبطت إلى عنقه. دفع الباي بالرّسالة إلى كاتبه ففتحها وقرأ ما فيها فكانت جُملا بدون مقدمة وبلا إمضاء: "بسم الله الرّحمان الرّحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين: هذا إنذار أخير.. لكي تطلق سراح علي بن ستيتة.. فإن لم تفعل فعلنا بكل من يعترضنا من رجالك مثلما فعلنا بهذا وبأصحابه، ومن أنذر فقد أعذر" جنّ جنون الباي وصاح في الحاضرين: - من يكون هذا الكلب علي بن ستيتة، ومن أيـة قبيلة هـو؟ - هو أحد المارقين يا سيدنا.. وهو مسجون في كرّاكة حلق الوادي، وهو من قبيلة لم نتمكن من وضع أيدينا على رجالها منذ سنوات، فهم لا يستقرون بمكان ولا يعترفون بسلطان. - لا أريد أن أسمع مثل هذا الكلام.. لا توجد قبيلة لم تخضع لنا، وإن وُجدت فسوف نُخضعها حتى لو قضينا أيام المحلة كلها وراءها.. أغربوا عن وجهي.. واسرعوا بإفاقة الخائب أحمد الأشهب الذي لم يستطع الإفلات من أيدي كمشة من الرّعاع. *** *** لم تتحسن حالة أحمد الأشهب إلا بعد يومين، فقد حاول أن يتذكر ما جرى له، وكيف وصل إلى المحلة فلم يهتد، فقد سقوه شرابا غيّبه عن الوعي فلم ير لا وجوها ولا رجالا ولم يتصور حتى الحالة التي كان عليها، وكاد يُكـذِّبُ الطبيب الذي باشره ووصف له ما جرى بالتفصيل وكيف وصل إلى المحلة. - ماذا سأقول لسيدنا؟ وكيف سأفسّر له هذه الخيبة؟ !! - هو في انتظارك الآن.. وما عليك إلا أن تستعيد ما جرى لك من يوم فارقت المحلة لإيصال المرأة إلى السرايا إلى يوم وصولك إلى هنا وأنت على تلك الحال. دخل على الباي فوجده غاضبا غضبا لم يعده فيه من قبل. - آه يا سي الشباب.. حسبتك من خيرة رجالي.. ومن أشجع الشجعان، فإذا بك تقع في فخ أعرابي.. فأخسر أنا رجالي.. والأمانة التي كلفتك بإيصالها إلى قصرنا.. وخسرت أيضا ماء الوجه.. ثم تعود إلينا جيفة وفي رقبتك مكتوب من واحد أجيف من خنزير، تكلم.. أين زينة؟ وأين كنت طوال هذه الغيبة؟! - سيدنا.. أطلب منك العفو على ذنب لم أقترفه؛ لقد فاجأنا العربان وكانوا أكثر منا عددا.. قتلوا رجالنا.. واختطفوا المرأة.. وسجنوني وعذبوني.. ولا أعرف كيف انتهى بي المطاف إلى هنا.. لم أعرف حتى من أي عرش هم.. - أنا أعرف من أي عرش هم.. وبما أنك كنت في ضيافتهم. وأنّك المسؤول عن ضياع رجالي، فإني آمرك بالبحث عنهم واسترجاع المرأة والانتقام منهم. - أنا يا سيدنا، كيف..؟ إنهم عرش بأكمله.. إنهم فرسان.. و.. - خذ معك ما تحتاجه من الرجال.. ألف رجل إن لزم الأمر.. انطلق غدا.. ولا تعد إليّ إلا بزينة.. وبرأس شيخهم.. لا تعد خائبا يا أحمد وإلا خنقتك بيدي هذه.. انصرف الآن. خرج أحمد الأشهب وقد دارت به الدنيا وأيقن أنه ذاهب إلى الخسران. *** *** كانت كوكبة الفرسان على أتمّ الاستعداد عندما تقدم الأشهب لاستعراض رجاله، وكان ينظر إليهم ويتفحصهم واحدا واحدا كأنه سينطلق بهم فعلا للبحث عن شيخ القبيلة الذي افتك منه زينة وقتل رجاله، فقد أظهر للجميع بعد خروجه من حضرة الباي أنه كان فعلا ضحية هجمة العربان المارقين، وأنه خارج إليهم ليلقّنهم درسا لن يعودوا بعده إلى ارتكاب فعلة شنيعة كتلك. انطلق إلى المجهول وهو لا يدري إلى أين سيذهب برجاله ولا كيف سيفعل لإقناع الباي بعد عودته فاشلا مرة أخرى، ولا كيف سيكون مصيره بعد ذلك، وتمنى لو تحدث حرب أو أية كارثة تنسي الباي هذا الموضوع فينصرف إلى ما هو أهمّ من الجري وراء امرأة والأخذ بالثأر من أعرابي رفض الخضوع إلى طاعته. استمرّ السير نحو المجهول قرابة يوم ونصف في اتجاه المكان الذي وقعت فيه حادثة اختطافه، وقبل الوصول إليه بقليل، لاح لأحمد الأشهب غبار يدل على قدوم فارس في اتجاهه، فأوقف رجاله بحركة من يده وبقي ينتظر حتى وصل الفارس، فإذا به من عسكر باردو وكان على حال من الإعياء، فبادره أحمد الأشهب بالسؤال عن سبب إسراعه، وهل يحمل خبرا عاجلا؟ فكان جواب الفارس على قدر انتظار الأشهب وأمانيه: - نعم سيدي الضابط، إني أحمل في الحقيقة خبرا سارا و.. محزنا في الآن نفسه، فسيدنا الكبير على فراش المرض.. وهو على ما يبدو في النزع الأخير.. وقد كلفني سيدنا الوزير بالركوب إلى سيدنا باي الأمحال لاستحثاثه على العودة إلى الحاضرة حتى يشرف بنفسه على.. - طيب.. طيب.. فهمت.. استرح الآن.. ولا داعي لإتعاب نفسك أكثر، فالمسافة التي تفصلنا عن المحلة طويلة ومتعبة ولن تصل إليها إلا بعد يومين.. سوف نستريح ثم نعود كلنا إلى المحلّة، وسوف يعطيك سيدنا البِشارة. تهالك أحمد الأشهب على الأرض المعشّبة كأنه يحطّ نفسه حطّا لإراحتها من ثقل ومن عناء، فقد أنهكه التفكير في إيجاد حيلة للخروج من الورطة التي أوقعه فيها باي الأمحال، فكان يتمنى وهو في طريق التيه الذي سلكه مع رجاله أن تحدث حادثة تقلب الأوضاع لصالحه، وها أن الأقدار قد استجابت لدعائه، فحدث ما لم يكن في الحسبان. سيموت الباي الكبير وسيحل باي الأمحال محله، وهكذا تنتهي المحنة، وسيفرح سيده بأمر ارتقائه عرش البايات ليكون الحاكم المطلق، فيطلق يديه كما يشاء في أمر العباد وبذلك ينسى زينة وشيخ العربان وينصرف إلى شؤون أخرى أكبر وأهمّ. ما كاد يستريح بعض الساعة حتى فاجأه المرسول برغبته في الانطلاق بمفرده إلى المحلة ليخبر باي الأمحال بالخبر العاجل حتى لا يتعرض إلى العقاب بسبب تراخيه، لكن أحمد كان على غير فكرة الرّجل، فهو يريد أن يغطي كذبته ويبرّر عودته إلى باي الأمحال وهو خالي الوفاض دون تحقيق نتيجة، وذلك بحمله هو بالذات للخبر الجليل حتى يتحصّل على البِشارة الهامة ويعتق بذلك رقبته من أمر المرأة وشيخ العربان. - تستطيع أن تنصرف للقيام بالمأمورية، لكن أنصحك بالمكوث معنا وسنحمل الخبر سويّا إلى سيدنا، فالطريق وعرة وربما يعترضك جماعة العربان المارقين فينكّلون بك كما حصل لنا منذ أيام.. - يجب أن أذهب يا سيدي الضابط فأنا متعوِّد على وعورة الطريق.. دلني فقط على أقرب وجهة للوصول إلى المحلة دون عطل.. أشار له أحمد الأشهب بوجهة وعرة ستأخّره حتما عن اللحاق بالمحلة بقدر نصف يوم، ثم قام من موضعه وأمر رجاله بالاستنفار حالا للانطلاق. *** *** لمّا دخل على الباي بادره هذا الأخير بالسؤال: - ما وراءك يا أحمد، هل عدت بالمرأة وبرأس ذلك القطـعي؟! - لا يا سيدنا.. لقد عدت بأفضل منهما، مبروك.. والبركة فيك يا سيدنا.. مبروك وإن شاء الله بطول العمر.. - مبروك على ماذا يا رجل؟ - ألم يصل مرسول باردو يا سيدنا؟ - أيّ مرسول؟ ماذا حدث؟ وبماذا علمت؟ - لقد اعترضنا مرسول باردو وهو حامل البشارة وقد نصحته بالتريث للانطلاق معنا، لكنه فضّل الركوب مسرعا، والظاهر أنه تاه في الطريق.. لذلك عدت مسرعا لأبشرك يا سيدنا بأنك ستصبح سيدنا الكبير اليوم أو غدا على أقصى تقدير. لم يشعر أحمد الأشهب إلاّ والباي يرمي له بصّرة كبيرة محشوّة ذهبا تعبيرا عن استحسانه المطلق بما سمع ومكافأة لهذه البشارة. ومن الغد انطلق الجميع نحو الحاضرة. *** *** انتهت أيام التّرحال الشاق وعادت المحلة إلى الحاضرة، وعاش أحمد الأشهب الأيام الأولى التي شهدت الاحتفالات بارتقاء باي الأمحال إلى كرسي الحكم، وكانت أياما مليئة بالأفراح في قصر باردو لم تمنع أحمد من التسلل ناحية منوبة حيث بقيت زينة في انتظاره. كان اللقاء بينهما لقاء الشوق الذي شحذته أيام الفراق، فتحدثا عن كل ما خطر ببالهما وعن المغامرة التي رمتهما في أحضان بعضهما حتى استقر بهما مجرى الكلام في موضوع بقي عالقا: - أين الخلخال يا سي أحمد.. ألم تعدني بواحد لم تلبسه امرأة في تونس؟ - وهل أخلفت يا زينة؟.. إني على وعدي، وقد كلفت صائغي مشهود له بالمهارة في سوق الصّاغة بصنع خلخال رفيع، وسوف يكون جاهزا وفي رجليك الجميلتين في أقرب وقت.. كان جواب زينة لأحمد سيل من الدلال والغنج جعلاه يعيش سعادة قصوى تمادت حتى أولى تباشير الفجر. *** *** مضت بضعة أيام وهو مشغول بإعداد التنظيم الجديد لعسكر السّرايا والإشراف على نقل أغراض الباي الرّاحل وخاصّتة من قصر باردو إلى أماكن أخرى في ضواحي المرسى ومنوبة ومرناق، ممّا عطّله عن الذّهاب إلى الصّائغي ليتسلم الخلخال، فألحّت عليه زينة ذات صباح لكي يعرج على الصّائغي قبل الذّهاب إلى السّرايا. وجد الصّائغي قد أكمل صناعة الخلخال منذ أيّام وأعدّ له صندوقا فضّيا مزركشا لحفظه. تفحّص أحمد الخلخال فأعجبه أيّما إعجاب، فقد كانت صناعته دقيقة وحسب الأوصاف التي أرادها، فبدا تحفة رائعة قلّ مثيلها، إنه خلخال فريد فعلا، مرصّع بحبّات من الجوهر، تخللت نقوشه الرائعة حبّات أخرى من الألماس تشعّ إشعاعات تطغى على إشعاع الذهب الخالص. - لم أصنع يا سيدي في حياتي مثل هذا الخلخال، ولم تلبس مثله حتى "البايّة" نفسها.. مبروك عليك يا سيدي.. مبروك. خرج أحمد من عند الصّائغي وقد أعدّ في ذهنه برنامجا لحفلة خاصة تجمعه بزينة ليقدم لها هذه الهدية التي كلفته جزءا من ثروته. ذهب رأسا إلى السّرايا فقيل له أنّ الباي أرسل في طلبه منذ ساعة. كان الباي يجلس بمفرده في شرفة القصر، يرتشف قهوته الصّباحية، ولمّا رأى الضّابط بادره بالكلام دون أن يردّ على التّحية: - أحمد.. ها قد مرّت الأيام وانتهت احتفالات العرش فماذا أنت صانع للعودة إلى ذلك الأمر؟ أدرك أحمد الأشهب أنّ الباي لم ينس موضوع زينة ولا موضوع اختطافها ولا موضوع الأخذ بالثأر من خاطفها.. وشعر بالدم يفور في وجهه ويلفح أذنيه، فحاول أن يجد كلاما أو أن يتظاهر بالبلاهة وعدم الفهم لكن الباي عاجله قائلا: - لا تظننّ يا أحمد أني سأسكت عن ذلك الموضوع. عليك أن تجد تلك المرأة وأن تضع يدك على ذلك المارق.. أفهمت؟ - فهمت يا سيدنا.. فهمت.. لن أدّخر جهدا لإعادة الأمور إلى نصابها.. - طيب.. اذهب الآن ورتب هذا الأمر، اجعله من أولوياتك.. استأذن في الخروج، وما كاد يصل إلى عتبة الباب حتى سمع الباي يقول له: - أحمد.. ما حكايـة الخلخال الغالـي الذي صنعه لك الـيهودي؟ تجمّد في مكانه وقد فارقته كل شجاعة وكل حيلة. *** *** لم يعرف بماذا يجيب عن السؤال الصاعقة الذي أفقده الحيلة للحظات، لكنه استطاع التّغلّب بسرعة فائقة على ارتباكه، فابتسم ابتسامة واسعة ثم عاد إلى حيث جلس الباي وقال له بنبرة اصطنع فيها كل صنوف الدهاء والمكر: - سيدنا.. أخجل البوح بما قد يخدش حيائكم.. وأنا.. ضحك الباي ضحكة عالية، وتمادى في الضحك لحظات خيّل لأحمد أنها لن تنتهي، ولم يعرف هل هي ضحكة سخرية أم ضحكة استحسان. - فهمت.. فهمت يا أحمد.. لا بأس.. لا بأس.. أنا لا أرى عيبا في أنك تعشق امرأة.. وتتسرّى بها، وما الخلخال الذي سمعت عن حسن صنعه وارتفاع ثمنه إلا عربون على مدى عشقك لهذه المرأة.. أليس كذلك يا سي أحمد؟ سكت الأشهب مصطنعا الحياء والخجل وقد خفض بصره واستكان في وقفته كأنه أتى منكرا. - استقم يا أحمد.. استقم.. إني مسرور جدّا بهذا الأمر.. لأنك أصبحت تشعر فعلا بما أشعر به أنا.. رفع بصره إلى الباي وهو غير مصدّق لما سمع، فهو يعرف أن للباي عديد النساء من محظيات وجواري وأنه يعاشر كل يوم أكثر من واحدة، فكيف يتعلق بامرأة ويحبها ويتعذب من أجلها؟ وهل صحيح أن هذا الرجل يتعذب كما يتعذب بقية خلق الله؟ - لم أفهم يا سيدنا، هل توجد امرأة.. صدّتْ سيدنا عنها.. ولم.. - نعم يا أحمد.. إني لم أشبع من تلك المرأة التي اختطفها منك ذلك الأعرابي الأخرق.. لذلك بقيت إلى اليوم على نار.. ولن تنطفئ ناري إلا عندما تعود إليّ زينة وأنتقم من ذلك الكلب. لهذا السبب اخترتك أنت، لأنك عاشق مثلي.. وأنت مٌكْـتَو بنار العشق.. والدليل خلخالك الغالي.. ولن يشعر أي رجل من رجالي بما أشعر به إلا أنت يا أحمد.. فهل تأخذ بثأري؟ أم آخذه بيدي وانتقم شرّ انتقام من كل من تسبب لي في هذه الخسارة؟ - لا.. لا والله يا سيدنا.. سوف أقوم أنا بهذه المهمّة.. وسوف انتقم لسيدنا من ذلك الرجل، وسوف تعود تلك المرأة إلى سيدنا مهما كلفني ذلك، حتى لو كانت حياتي نفسها هي الثمن.. - أعرف.. أعرف أنك شهم يا أحمد.. إذن.. أنت حرّ في ما تراه من حيلة لإعادة ما ضاع من أيدينا، والعودة إلينا ومعك المرأة زينة ورأس ذلك الأعرابي المارق.. أريد ذلك في أقرب وقت.. أفهمت.؟ خرج أحمد الأشهب وقد شعر بأن الأمر أصبح خطيرا جدّا.. وأن الباي قد علم، أو على الأقل، شكّ في هذه المعشوقة صاحبة الخلخال. لم يدر كيف سيتصرف، هل يحافظ على حظوته عند الباي وبالتالي يحافظ على مركزه وجاهه وأمواله وعائلته.. أم يعيد زينة إلى الباي ويأتي برأس صديقه شيخ العرب وبذلك يكشف للباي حقيقة ما حصل؟.. وفي كلا الحالتين لن ينال سوى العقاب الشديد.. ركب فرسه وتحسس صندوق الخلخال المخبأ في الخُرْجِ ثم انطلق نحو داره وقد قرّر تهريب زينة إلى مكان مجهول وإنهاء هذه المغامرة الخطرة التي ستكلفه كثيرا، فالباي سيبقى وراءه، طال الزمان أو قصر.. *** *** مرّت ثلاثة أيام على لقائه بالباي قضّاها بين أهله تارة ومرارا عند زينة، فقد فشل في تنفيذ قراره الذي اتخذه بالاستغناء عن حبيبته أو التفريط فيها بكل سهولة بعدما أصبحت حلاله، وبعدما قاسى من أجلها وغامر بحياته للفوز بها. ولم يدر لماذا لم يقدّم لها الخلخال ولماذا أخفاه عنها، ولم يدر أيضا كيف علم الباي بموضوع الخلخال ومن أخبره بهذا الأمر التافه وهو في عزّ أيام الفوز بالعرش؟ لكن هذا الأمر لم يثر تعجبه كثيرا فهو يعرف أسرار الحاشية ومن يدورون حولها، كما اعتقد أن الصائغي لن يبقى مكتوف اليدين، وسوف يصنع خلخالا مثل خلخال زينة ويعرضه على الباي نفسه أو على الباية زوجته. قرر أن يترك للأيام أمر علاقته بزينة وأن يجد حيلة لكي يقنع الباي بالانصراف عن فكرة الانتقام ويعتني بأمور الحكم. كان يفكّر في كل هذا عندما دخلت عليه هنية وأخبرته بأن صبايحي من صبايحية الباي يطلبه في أمر عاجل! استغرب الأمر وتساءل عن كيفية وصول الصبايحي إلى هنا، وكيف عرف أنه موجود في هذه الدار؟ وأوجس خيفة وشعر بأن الباي يعرف كل شيء ويعرف حتى وجود زينة هنا.. تملكه خوف ساحق، فخرج لاستطلاع الأمر من الصبايحي نفسه، ولما عرف السبب هدأ قليلا، لكن قلقه بقي يلحّ عليه، فقد أخبره الرّجل أن الباي يريده في أمر يتعلق بالإعداد لزيارة أمير مغربي إلى تونس وأن عليه الاتصال بالخزندار، أما عن كيفية معرفة الصبايحي بوجوده بهذه الدار فقد ذَكَّرهُ وهو يبتسم: - هل نسيت يا سيدي أني أنا الذي أخبرتك بموضوع هذا البستان وأني توسّطت لك في شرائه؟! تذكر أحمد الأشهب هذا الموضوع الذي نسيه تماما ولعن هذا الصبايحي الذي أفسد عليه سرّ جنته، مع أنه كان طلب منه الاحتفاظ بالسّر وعدم إخبار أيّ كان بالأمر. ومع ذلك فإن شعورا غامضا أقلقه وأفسد عليه يومه، فعاد إلى جلسته وهو مهموم ثم ما لبث أن خرج ونادى هنية وحدّثها على انفراد: - هنية لن أعيد إلى ذهنك كيف تعايشت عائلاتنا مع بعضها ولا كيف خدم أهلك أهلي منذ سنوات طويلة.. فقد جمع بيننا الماء والملح.. ولم يخن أحدنا الآخر أبدا.. لذلك.. سأعطيك هذه الأمانة.. فاحتفظي بها.. في مكان آمن.. ولا تخبري بها أحدا مهما كانت الظروف والدوافع.. وسأعود لأخذها بعد أيام.. دفع لها بصندوق الخلخال وهو ملفوف في لفافة كبيرة وأمرها بالذّهاب إلى تونس في نفس اليوم ثم الرجوع إلى منوبة في المساء والبقاء مع زينة حتى يعود لأخذها إلى مكان آخر. لقد ألحّ عليه خوف جديد.. خوف من الصّبايحي الذي أخفى عنه حقيقة تعقّب خطاه إلى البستان.. فهو لم يفعل ذلك تلقائيا، بل بأمر، سواء من الباي أو من شخص آخر يريد له الشّر... هناك خطر قادم ولا بدّ حينئذ من تفاديه في أسرع وقت. دخل على زينة وأخبرها بأنه مضطرّ للذهاب إلى باردو لملاقاة الباي وسيعود حالما ينهي مهمته. ودّعها بشوق كبير، كأنه يودّعها الوداع الأخير فحاولت استبقاءه قليلا وقد غشت الدموع عينيها، لكنه فضّل الإسراع بالخروج حتى لا ترى دمعة نفرت من عينه. *** *** تهالكت زينة على أول مقعد اعترضها، فقد انتابها شعور موجع بالفراغ وبالخوف وحتى بالندم، ولم تجد جوابا واحدا لتساؤلاتها المتكررة عن الدوافع التي جعلتها تبعثر حياتها الهادئة فتنساق في مغامرة مجهولة العواقب، فهل من أجل الحب يرتمي المرء في لجج لن يقدر على مصارعتها؟ وهل مغامرات العشق تؤدّي إلى برّ الأمان..؟ وهل الانفلات ممكن من يد طويلة، مثل يد الباي ذات القبضة التي لا ترحم؟ لقد ندمت عن انسياقها السهل وراء السراب.. إنه فعلا سراب، فها هي وحيدة في الخلاء، لا أهل ولا أصحاب، غير محسوبة في عداد الأحياء، تعيش مُتخَفِّـية، خائفة من الآتي، لا سند لها سوى هذا الرجل الذي فضّلته على سيده ولم يفضّلها هو على زوجته وبناته، وانشغل عنها بمهامه وبتوجّساته من اكتشاف أمره. هل من الحكمة البقاء متخفّية، وإلى متى؟ وهل من الحكمة أن تبقى هكذا بين بين، فلا هي حَلِيلَة في أنظار الناس، ولا هي حرّة في محيط غير محيطها، بل هي مجرّد خليلة، حتى في نظر هنية رغم المحبّة المتبادلة بينهما؟ أليس من الأفضل أن تنقذ نفسها قبل فوات الأوان وأن تنقذ حبيبها من حبل الخنق لو اكتشف الباي خيانتهما له؟ إنّ أفضل حل للجميع هو الهروب، وبذلك تنتهي الحكاية ويعود الأمر إلى نصابه، فالمغامرة بلا غد، وهذا الرجل العاشق غير قادر على توفير حماية لا لنفسه ولا لها، فحتى ذلك الخلخال الذي طلبته منه لم يقدرعلى جلبه لها.. وها أن بوادر الخطر قد حصلت اليوم بظهور أحد رجال الباي.. إنها ليست صدفة، بل فعل مؤكّد. فجأة شعرت بعودة الوعي.. فلطمتها الحقيقة والواقع وهي وحيدة في الدار، فلا هنية ولا أحمد الأشهب هنا. نَطّتْ من مكانها مُسْتغلة خلو الدار لتلملم ما عَزّعليها وتتسلل هاربة إلى برّ الأمان.. لتنجي نفسها وحبيبها، فالعشق ثمرة لا يتقاسمها إلا اثنان، يحرّمها عليهما الآخرون غيرة وحسدا.. ما إن بادرت بإعداد نفسها للخروج وقد حملت أغراضا خفيفة حتى سمعت جلبة ونباح كلاب فأحست بانقباض شديد سرعان ما تحوّل إلى هلع جمّدها في مكانها.
Chapitre 4 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 4.1
Contenu de la sous-section 4.1...
Chapitre 5 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 5.1
Contenu de la sous-section 5.1...
Chapitre 6 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 6.1
Contenu de la sous-section 6.1...
Chapitre 7: Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 7.1
Contenu de la sous-section 7.1...
Chapitre 8 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 8.1
Contenu de la sous-section 8.1...
Chapitre 9 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 9.1
Contenu de la sous-section 9.1...
Chapitre 10 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 10.1
Contenu de la sous-section 10.1...
Chapitre 11 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 11.1
Contenu de la sous-section 11.1...
Chapitre 12 : Votre contenu texte ici...
teeeexxxt
Sous-section 12.1
Contenu de la sous-section 12.1...